عمر شهريار
في رواية "المؤلف" الصادرة أخيرا عن "الدار" يقدم الروائي صبحي موسي لعبة شائقة من البناء والتدمير علي أكثر من مستوي أولها المستوي التقني الذي ينبني علي هدم أسطورة المؤلف كخالق فذ لعمله ومتحكم في مصائر شخوصه، فصبحي يجعل من بطله "المؤلف" الذي عليه أن يخلق شخوصه من العدم ويدخلها في متوالية هندسية من الأحداث: مشاهدا تطورات صراعها من الخارج ولا بأس أن يتدخل لتعديل هذه الأحداث والمصائر حسب رؤيته كذات عارفة. وهنا تظهر لعبة موسي الذي يقوم بإدخال هذا المؤلف إلي ذلك العالم المتخيل الذي ابتدعه، فيجعل من هذا المؤلف أحد شخوص ذلك العالم، مجرد شخصية ورقية تعاني الأزمات نفسها التي يعانيها الأبطال المخترعون، ليفقد بذلك وضعيته السلطوية المائزة، والتي منحتها له الثقافة، عبر تراكمات عديدة تجعل من المؤلف إلها يخلق عالمه الروائي وشخوصه الروائية ثم يتركها تواجه مصائرها بمفردها، تلك المصائر التي يتابعها المتلقي بشغف بالغ دون أن يتساءل عن مصير المؤلف، ذلك الخالق الذي لا يجب له أن يتذوق معاناة مخلوقاته، ومن ثم فهو بمعزل عن التساؤل عن مصيره لأنه العليم الذي يّسأل ولا يِجسأل.
قد يبدو الأمر مجرد لعبة تشبه لعبة الشطرنج، حين يتخلي الملك/المؤلف أحيانا عن وضعيته الواثقة في خلفية الصفوف بعيدا عن المعارك الأمامية التي يتم فيها الدفع بالبيادق/المخلوقات/الشخوص الورقية لتواجه مصائرها أولا، ولكن قد يواجه هذا الملك/المؤلف ذلك الموقف الصعب الذي لم يكن يتوقعه بأن يتم الدفع به في قلب اللعبة: إذ نري المؤلف "ينصت كمن يتلقي تعليمات لا يملك القدرة علي رفضها". هذه التعليمات تأتي من أحدي شخوصه التي تطالبه بتغيير مصيرها وتعديله. هنا يتخلي المؤلف عن مكانته الأسطورية ليعترف "لست ربا كي أكتب عما أجهل وكأنني أعلمه علم اليقين، ولست شيطانا لأدخل في الصدور فأعرف ما تختلج به النفوس". هنا _ومنذ الفاصلة السردية الأولي_ يعلن المؤلف عن تخليه عن طبيعته الأسطورية عائدا مرة أخري إلي صيغة إنسانية تفتقد للمعرفة الكليانية ذات الطابع الإلهي.
>>>
ثمة مستوي آخر من هذا البناء والتدمير وهو المستوي السياسي، إذا شئنا أن ننحو هذا المنحي من التأويل، فالمؤلف هنا هو السلطة، أو علي الأقل يحاول أن يصنع من نفسه سلطة، هربا من القهر الذي وقع عليه من المجتمع كسلطة أعلي، حين مكث تحت أقدام أمه عشرين عاما "في حجرة كنا نسميها منزلا، لا أحد يزورنا، ولا أحد يفكر في أن يطرق بابنا ولو بطريق الخطأ ليعلمنا أننا لسنا موتي". ومن ثم فقد وقع فريسة للفقر والمرض والعزلة، وهذا القهر بدوره خلق لديه الرغبة في صنع عوالمه الافتراضية التي تعطيه سلطة ما، بحيث يكون قاهرا وليس مقهورا، وبالتالي كانت الرواية التي تعطيه إحساسا بأنه ذات فاعلة وقادرة علي التحكم في مصائر آخرين هم شخوص الرواية، فنري الشيطان الذي يخاطبه بقوله "يا سيدي" ويكرس داخله إحساس التفوق والسيادة، ولكن هذا الشيطان (العبد المقهور في هذا السياق) يصدر القهر لشخصية أخري هي "العبد اللطيف" الذي وقع تحت قهرين متباينين: قهر الشيطان وقهر بقية مجتمع الرواية من الشخوص الذين يعاملونه كمسخ ويتفززون منه، فيقرر هو الآخر صنع عوالمه الافتراضية الخاصة، فيصنع لنفسه أصلا ونسبا وأخوة وأباء وأجدادا يصلون إلي أبي دجانة الذي دافع عن النبي في غزوة أحد، وذلك في محاولة لاكتساب سلطة ما.
هذه السلسلة من اصطناع سلطات وهمية لا يتركها الراوي هكذا، وإنما يصل بها إلي حالة من التحلل والتفكيك ليعود بها إلي المربع رقم صفر، حيث الإحساس بالقهر والعجز وفشل هذه السلطات المتوهجة فالمؤلف يعترف أمام نفسه: "إنني خجل من نفسي، لا. . بل إنني أتعس مما يتصور العالم، لو يعلمون أنني صنعت كل هذا لأسري عن نفسي، لو يعلمون أنها محض لعبة سخيفة". والشيطان، أيضا، يضع يده علي حاله المتردية طامعا في أن يفارق هذه الوضعية إلي وضعية أخري ودور مغاير للدور الذي يقوم به داخل هذه اللعبة، يقول:" أريد تجربة غير تلك التي اعتدتها، فلم لا يغير دوري في لعبته الجديدة؟ فأنا أيضا فنان، وربما سأكون أكثر إبداعا في عالمي الجديد". وكذلك العبد اللطيف يكتشف زيف سلطته المتوهمة والتي صنعها خياله وأنه مجرد عبد يقول: "لا أحد يريدني ولا أشعر بالحياة مع أحد، وكل ما بنيته لم تعد له قيمة، حتي الأسطورة التي اخترعتها عن الأهل وقرب مجيئهم لم تعد تقنع رضيعا علي صدر أمه". ومن ثم فإننا بإزاء حالة دائرية تعود بنا إلي عبودية كل شخوص الرواية المتخيلة بما فيهم مؤلفها الذي كتب مسخا كالعبد اللطيف كي يسقط عليه ما لديه هو من عجز ونفور من نفسه.
>>>
ثمة مستوي آخر لا يمكن قراءة النص بدونه وهو التناص: إذ تتناص شخصية "المؤلف" عند موسي مع شخصية "الجبلاوي" عند محفوظ في روايته "أولاد حارتنا"، كما تتناص أيضا مع أسطورة "بجماليون" التي تتناول علاقة الفنان الخالق لابداعاته التي يخلقها. ولكن موسي هنا ينحو منحي آخر عن هذين النصين، فهو يصنع الخالق/المؤلف داخل عالمه ليسخر منه ويفكك أسطوريته المزعومة، ومن ثم فإن هذا النص لا يعد تمثيلا لقصة الخلق كما فعل محفوظ كما يبتعد بمسافة كبيرة عن مسرحية الحكيم لأنه ينطلق من وعي مغاير هو وعي "المحاكاة الساخرة" التي تعد أحدي سمات الكتابة ما بعد الحداثية التي تحاكي قصة ما أو حدثا ما لتسخر منه وتفكك فرضياته ومن ثم تفكك الوعي الكامن وراء هذه القصة أو ذاك الحدث وتسخر منه. فالمؤلف هنا لم يعد يجلس في قصره البعيد مغلق الأبواب مثلما فعل جبلاوي محفوظ ولكنه تورط أو، إذا شئنا الدقة، قام موسي بتوريطه في النزول إلي عوالم مخلوقاته وما تعانيه من جراء خلقه لها ليدرك في نهاية المطاف حجم المأساة التي ارتكبها لمجرد أن يسري عن نفسه ويدفع عنها آلام الوحدة والعزلة.
الكتاب: المؤلف
المؤلف: صبحي موسي
الناشر: الدار
[/b]